فيما لا يزال المجتمع الدولي، خصوصاً الدول الكبرى، غير مستعدة بعد لوقف الحرب الجنونية التي تشنها إسرائيل ضد السكان المدنيين في غزة، رغم تصاعد أعداد الضحايا من القتلى والمصابين وبلوغها أرقاماً تشي بانتهاك كل قواعد الحروب من قبل جيش الاحتلال الذي يقتل البشر والحجر.
يبدو أن الشغل الشاغل لهذا المجتمع ليس أعداد الضحايا أو هدم المنازل والمستشفيات ومدارس الأونروا، إنما هو مرحلة ما بعد أن تضع الحرب أوزارها، ومصير القطاع الذي بات معلقاً ومستقبله مجهول، رغم ضغوط فريق الرئيس الأمريكي جو بايدن على إسرائيل منذ المراحل الأولى من الحرب لوضع خطة لما سيحدث في غزة بعد كل هذه الجرائم والمجازر.
إن مخطط إسرائيل الخبيث منذ بداية الحرب يكشف رغبتها في تسوية قطاع غزة بالأرض، وهو ما حدث في المرحلة الأولى من الحرب خصوصاً في الشمال، ويبدو أن متطرفي الحكومة اليمينية عازمون على تنفيذ هذا السيناريو في الجنوب أيضاً، إذ صدرت أوامر الإخلاء لسكان غزة بترك منازلهم فوراً والخروج من دون تأخير، إلى مناطق محددة لهم.
من نزوح إلى نزوح
وبين أزمة (اليوم التالي) وخطط إسرائيل في توسيع (حرب الانتقام) دون أفق زمني لإنهائها، تستمر معاناة أكثر من مليوني فلسطيني مع تردي الأوضاع الإنسانية وبلوغها مرحلة الكارثة.
وفي هذا السياق، لفت مراقبون سياسيون إلى التحذيرات الإسرائيلية المتواصلة بالإخلاء؛ التي دفعت مئات الآلاف للنزوح نحو المناطق الوسطى والجنوبية من القطاع هروباً من حرب الإبادة الجماعية. وبحسب هؤلاء، فإن جيش الاحتلال يطالب النازحين الآن بالنزوح إلى منطقة رفح، لذلك اضطروا هؤلاء إلى النزوح 3 أو 4 مرات، ومن ثم لم يعد هنالك مكان آمن في غزة.
هذا السيناريوظخ الذي تخطط له إسرائيل، يهدف في نهاية المطاف إلى دفع الفلسطينيين دفعاً إلى التهجير القسري، فالقتل يطالهم في كل مكان؛ سواء في منازلهم أو مخيماتهم أو حتى الأماكن التي زعم الاحتلال أنها آمنة وطلب منهم اللجوء إليها.
ويصف محلل سياسي ما تفعله إسرائيل في سكان القطاع المنكوب بأنه اقتلاع الفلسطينيين من جذورهم وليس مجرد عملية إجلاء أو نزوح من مكان إلى آخر.
وليس أدل على ذلك من أن الاحتلال الذي طلب من سكان المناطق الشمالية النزوح إلى المناطق الوسطى والجنوبية، هو ذاته الذي يطلب اليوم من أبناء المناطق الجنوبية الذهاب إلى رفح التي يقوم بقصفها.
تفريغ القطاع يطل برأسه
ويبقى السؤال: وماذا بعد كل هذا النزوح؟ والإجابة المتوقعة، وفقاً لرؤية خبير عسكري، هي أن جيش الاحتلال سوف يواصل الضغط لتنفيذ مخططه الإجرامي والطلب من الفلسطينيين الخروج من رفح إلى صحراء سيناء، مؤكداً أن حالة الهلع التي أصابت إسرائيل بعد السابع من أكتوبر الماضي لن تتوقف إلا بتنفيذ سياسية (الأرض المحروقة)، وتفريغ قطاع غزة، وطرد سكانه خارجه.
لكن السؤال الثاني: هل يسمح الوضع المتفجر بتنفيذ هذا المخطط الخبيث في ضوء ردة الفعل المصرية المعلنة، التي ذهبت إلى حد التضحية بالنفيس والغالي للتصدي لهذا السيناريو الكارثي، الذي يعد بمثابة إعلان حرب كما نعتته الأردن؟
لا شك أن التهجير أمر جد خطير، لكن إسرائيل، عملياً وعلى الأرض، باشرت عمليات التهجير التي يمكن تسميتها بـ المرحلية أو المناطقية ، وقد أعلنت رسمياً أنها قسمت غزة إلى حوالى 2300 قسم، ونشرت الخرائط الدالة على ذلك. وما سياسة الإنذارات والإخلاءات المستمرة، إلا اللبنة الأولى في هذا المخطط الذي يبدو أنه يسير بكل قوة إلى نهايته المحتومة.
سيناريوهان.. والأسوأ لم يأت بعد
الخلاصة، أن سياسة الإنذارات الإسرائيلية للفلسطينيين في غزة، تضعنا أمام سيناريوهين لا ثالث لهما؛ الأول: أن حكومة نتنياهو وتحت الضغط الدولي خصوصاً الأمريكي، تفكر في إنشاء مناطق عازلة على الحدود مع قطاع غزة لحصر السكان في مناطق مكتظة على الشريط الساحلي.
والسيناريوالثاني: وهو الأكثر خطورة؛ ويتمثل في مواصلة عمليات القتل الجماعي والنزوح، ما يضطر معه أهالي غزة، إلى الفرار من الجحيم، وهذا الخيار أو السيناريو لم يعد سراً لدى إسرائيل، بل إن تقارير عدة نشرتها مراكز دراسات تحدثت بالتفصيل عن هذا المخطط، بل إن وثيقة جرى تداولها في الكونغرس الأمريكي تشير صراحة إلى توزيع الغزاويين على أربع دول عربية، بل وذهبت إلى الحديث عن ربط المساعدات الأمريكية لتلك الدول بقبول الفلسطينيين على أراضيها غزة.
ومن هنا، فإن الأمر جد خطير، وما يحدث في غزة اليوم لن تتوقف نتائجه على القطاع وحده، بل إنه يمكن أن يطال المنطقة برمتها، لذا يتعين على المجتمع الدولي سرعة البحث عن مسار جاد يوقف حرب الانتقام ويعيد العقل المفقود إلى جادة الصواب للتعاطي مع مبادرات السلام باعتبارها الخيار الوحيد لتعايش الدولتين.